مفهومان للثراء: أيهما تختار، درب الاكتفاء أم كنز الزهد؟

مفهومان للثراء: أيهما تختار، درب الاكتفاء أم كنز الزهد؟ | د. طاهر محمود
مفهومان للثراء: أيهما تختار، درب الاكتفاء أم كنز الزهد؟ | د. طاهر محمود

مفهومان للثراء: أيهما تختار، درب الاكتفاء أم كنز الزهد؟

لطالما كان السعي نحو "الثراء" هو الشغل الشاغل للبشرية منذ الأزل. إنه الهاجس الذي يدفعنا للعمل بجد، ويشعل فينا جذوة الطموح، ويرسم ملامح مستقبلنا. ولكن، هل تساءلنا يوماً عن ماهية هذا الثراء الذي نلهث خلفه؟ هل هو مجرد تكديس للمال والممتلكات، أم أن له وجهاً آخر، أكثر عمقاً واستدامة؟

في الحقيقة، يقف الإنسان أمام مفهومين أساسيين للثراء، طريقان مختلفان تماماً في الوسيلة والغاية، وكلاهما يقود إلى شكل من أشكال الاستغناء عن الآخرين.

الطريق الأول: ثراء الاكتفاء المادي

هذا هو المفهوم الأكثر شيوعاً للثراء: أن تملك الكثير، الكثير جداً، حتى تصل إلى مرحلة لا تحتاج فيها إلى أحد. هو أن تبني صروحاً من المال والنفوذ، وتُحصّن نفسك بقلعة من الممتلكات التي تضمن لك الأمان وتمنحك القوة والحرية.

إنه ثراء اليد، ثراء الأرقام المتزايدة في الحسابات البنكية، والأصول التي تتوسع يوماً بعد يوم. لا يمكن إنكار جاذبية هذا الطريق، فهو يمنح صاحبه القدرة على تلبية احتياجاته ورغباته، ويوفر له سبل الراحة والرفاهية، ويمكنه من مساعدة أهله ومن حوله. إنه يمثل الاستقلال المادي والقدرة على مواجهة تقلبات الحياة بقوة وثقة.

ولكن، لهذا الثراء وجه آخر. إنه سعي لا ينتهي، فكلما امتلك الإنسان أكثر، زاد خوفه من الفقد، وتعاظم قلقه على ثروته. قد يجد نفسه سجيناً لما يملك، عبداً لحماية ممتلكاته وتنميتها. يصبح الثراء هنا حملاً ثقيلاً، ومسؤولية قد تسلب منه راحة البال، وتدخله في دوامة لا تنتهي من المنافسة والصراعات للحفاظ على مكانته. إنها ثروة خارجية، معرضة للزوال في أي لحظة.

الطريق الثاني: ثراء الزهد والقناعة

أما الطريق الثاني، فهو الوجه الآخر للعملة، وهو كما وُصف: "الثراء الأصعب، ولكنه ثروة لا تُفقد".

هذا الثراء لا يُقاس بما تملك في يدك، بل بما تتركه في قلبك. إنه القدرة على "الزهد" فيما يتنافس عليه الناس. والزهد هنا ليس مرادفاً للفقر أو التواكل، بل هو حالة راقية من السمو الروحي والفكري. إنه يعني أن تمتلك الدنيا في يدك، لا في قلبك. أن لا تجعل قيمة الأشياء المادية هي ما تحدد قيمتك كإنسان.

ثراء الزهد هو "غنى النفس". هو أن تصل إلى قناعة داخلية بأن سعادتك وراحتك لا تكمن في امتلاك المزيد، بل في الرضا بما لديك، والاستغناء عن كل ما هو فائض عن حاجتك الحقيقية. هذا هو التحدي الأكبر، لأنه يتطلب جهاداً داخلياً عنيفاً ضد رغبات النفس الفطرية في التملك والمقارنة والتنافس. إنه يتطلب حكمة لإدراك أن الكثير مما يسعى خلفه الناس ليس إلا قيوداً وأثقالاً.

لماذا هو ثروة لا تُفقد؟ لأنها نابعة من الداخل. لا يمكن لأزمة اقتصادية أن تسلبك قناعتك، ولا يمكن لسارق أن يسرق راحة بالك، ولا يمكن لتقلبات السوق أن تؤثر على غنى نفسك. هذا الثراء يمنحك حرية حقيقية، لا تمنحها المليارات. يحررك من القلق، والحسد، والخوف من المستقبل. يجعلك مستغنياً حقاً، ليس لأنك تملك كل شيء، بل لأنك لا تحتاج إلى كل شيء.

غنى اليد أم غنى النفس؟

إن المقارنة بين الطريقين لا تعني بالضرورة شيطنة أحدهما وتمجيد الآخر. فالإسلام نفسه، كدين وسطي، لم يدعُ إلى الفقر، بل حث على العمل والسعي وامتلاك القوة الاقتصادية. ولكن، لطالما حذر الحكماء من أن يكون هذا السعي هو الغاية النهائية.

الثراء الحقيقي يكمن في تحقيق التوازن. أن تسعى لامتلاك ما يكفيك ويغنيك عن سؤال الناس، وفي نفس الوقت، أن تزرع في قلبك زهرة الزهد والقناعة. أن تستخدم المال كوسيلة للعيش الكريم ولنفع الآخرين، لا كغاية بحد ذاتها تسلبك إنسانيتك وسلامك الداخلي.

في نهاية المطاف، كل منا يختار طريقه. هناك من يختار بناء القلاع من ذهب، وهناك من يختار بناء كنز من القناعة في الروح. الأول قد يوفر له استغناءً مؤقتاً ومُهدداً، أما الثاني، فيمنحه استغناءً أبدياً وثروة حقيقية، لا يفنيها الزمان ولا تغيرها الأحداث. إنه الثراء الذي يجعلك ملكاً على نفسك، وهذا هو أعظم ملك.

____________

منشوراتنا - Our Publications

Islamic Finance: Institutions, Industry, Governance

(التمويل الإسلامي: المؤسّسات، الصّناعة، الحوكمة)

Hardcover | Paperback | E-book