![]() |
| مفارقة الرّخاء: هل نصنع بأيدينا أوقاتنا الصّعبة؟ | د. طاهر محمود |
مفارقة الرخاء: هل نصنع بأيدينا أوقاتنا الصعبة؟
هناك مقولة بليغة ومؤثرة من أربعة أجزاء وردت في رواية الكاتب جي. مايكل هوبف، "أولئك الذين بقوا" (Those Who Remain)، والتي لاقت صدى عميقًا في الخطاب الحديث:
"الأوقات الصعبة تخلق رجالًا أقوياء. الرجال الأقوياء يصنعون أوقاتًا رخاء. الأوقات الرخاء تخلق رجالًا ضعفاء. والرجال الضعفاء يصنعون أوقاتًا صعبة."
تلخص هذه المقولة نظرية دورية للتاريخ، مفادها أن الرخاء يحمل في طياته بذور فنائه. إنه تحذير صارخ بأن الراحة والسهولة التي نسعى إليها قد تجعلنا في نهاية المطاف أكثر ضعفًا وهشاشة. لكن هل هذه الدورة حتمية؟ والأهم من ذلك، أين نقف نحن منها اليوم؟
المرحلة الأولى: الأوقات الصعبة تخلق رجالًا أقوياء
الشدائد هي بوتقة الصقل. عندما تواجه المجتمعات تهديدات وجودية — كالحروب أو المجاعات أو الانهيارات الاقتصادية — فإنها تتطلب من أفرادها إظهار أفضل ما لديهم. فالبقاء لا يكون أمرًا مفروغًا منه، بل يجب اكتسابه من خلال الصمود والابتكار والشجاعة. الأفراد الذين يجتازون مثل هذه المحن يُجبَرون على أن يصبحوا واسعي الحيلة، ومنضبطين، ومُقدِّرين لقيمة المجتمع والاستقرار. إنهم يدركون قيمة التضحية لأنهم عاشوها بالفعل.
لنتأمل "الجيل الأعظم" الذي تحمل وطأة الكساد الكبير ثم خاض غمار الحرب العالمية الثانية. لقد غرست التحديات الهائلة التي واجهوها في نفوسهم صلابة أسطورية وشعورًا عميقًا بالواجب، وهو ما استخدموه لإعادة بناء العالم.
المرحلة الثانية: الرجال الأقوياء يصنعون أوقاتًا رخاء
الفضائل التي صُقلت في أوقات الشدة تصبح حجر الزاوية لمجتمع مزدهر. يقوم الجيل القوي والصامد بتوجيه انضباطه وأخلاقيات عمله لبناء مؤسسات راسخة، وخلق فرص اقتصادية، وضمان السلام والأمن. إنهم يتذكرون كيف كانت الحياة بلا شيء، لذا يعملون بلا كلل لخلق عالم يجد فيه أطفالهم كل شيء.
هذه هي الحقبة الذهبية. يسود الاستقرار، وتزدهر الاقتصادات، وتصبح الحياة أسهل بكثير. تضحيات الماضي تؤتي ثمارها، مما يؤدي إلى فترة من السلام والوفرة غير المسبوقة.
المرحلة الثالثة: الأوقات الرخاء تخلق رجالًا ضعفاء
هنا تكمن المفارقة. ماذا يحدث عندما يولد جيل في خضم الرخاء الذي بناه أسلافهم؟ بما أنهم لم يعرفوا الشدائد الحقيقية، فقد يعتبرون وجودهم المريح أمرًا مُسلّمًا به. وقد تبدو فضائل كالصمود والتضحية مفاهيم مجردة، أو حتى غير ضرورية.
وكما يلمح الكاتب، فإن الراحة يمكن أن تولد التهاون والرضا عن الذات. عندما تكون الحياة سهلة، قد يضعف الدافع للسعي والابتكار والتحمل. ويمكن أن يتحول التركيز من صحة المجتمع على المدى الطويل إلى راحة الفرد على المدى القصير. هذا لا يعني بالضرورة أن الأفراد "أضعف" بطبيعتهم، بل إن عضلات الصمود والثبات قد ضمرت بسبب قلة الاستخدام.
المرحلة الرابعة: الرجال الضعفاء يصنعون أوقاتًا صعبة
المجتمع الذي يفقد صلابته يصبح هشًا. الجيل الذي اعتاد على الراحة، وغير المعتاد على الأزمات، قد يكون غير مؤهل للتعامل مع التحديات المعقدة التي تنشأ حتمًا. قد يفشلون في الحفاظ على المؤسسات التي ضمنت رخاءهم، ويتخذون قرارات قصيرة النظر، ويفتقرون إلى الإرادة الجماعية لتقديم تضحيات صعبة من أجل الصالح العام.
هذه الهشاشة، مقترنة بالفشل في معالجة المشاكل المتراكمة، تؤدي إلى الانحطاط المجتمعي. يتعثر الاقتصاد، وتتداعى المؤسسات، ويتفكك التماسك الاجتماعي. وبذلك، تصل "الأوقات الرخاء" إلى نهايتها رسميًا، مما يخلق "الأوقات الصعبة" التي ستصقل بدورها الجيل القادم من الرجال الأقوياء. وتبدأ الدورة من جديد.
كسر هذه الحلقة
عند النظر إلى عالمنا اليوم — بما فيه من استقطاب سياسي، وتقلبات اقتصادية، وتحديات عالمية — من السهل أن نتساءل عما إذا كنا نعيش في المرحلة الثالثة أو الرابعة من هذه الدورة.
ومع ذلك، فإن مقولة هوبف ليست نبوءة، بل هي تحذير. هذه الدورة ليست حتمية. فالوعي هو الخطوة الأولى لكسرها. من خلال فهم هذا النمط، يمكننا العمل بوعي لغرس القوة حتى في أوقات الرخاء. يمكننا أن نعلّم أطفالنا قيمة الصمود، وأن ندعم القادة الذين يتمتعون ببصيرة ونزاهة، وأن نذكّر أنفسنا بألا نعتبر رخاءنا أمرًا مفروغًا منه.
التحدي الأكبر هو أن نستمتع بـ "الأوقات الرخاء" دون أن نصبح "رجالًا ضعفاء". وهذا يتطلب منا أن نتذكر دروس الماضي وأن نبني عن قصد القوة والشخصية التي سنحتاجها لمواجهة تحديات المستقبل.
____________
