الرّدع الجديد: لماذا يجب أن نوازن موازين التكنولوجيا البيئية؟

الرّدع الجديد: لما ذا يجب أن نوازن موازين التكنالوجيا البيئية | د. طاهر محمود
الرّدع الجديد: لما ذا يجب أن نوازن موازين التكنالوجيا البيئية | د. طاهر محمود

الرّدع الجديد: لماذا يجب أن نوازن موازين التكنولوجيا البيئية؟

يُعد مبدأ الرّدع حجر الزاوية في الأمن العالمي، وأشهر تطبيقاته كان في مجال الأسلحة النووية. المفهوم بسيط ولكنه عميق: ضمان الدّمار المتبادل المؤكّد يمنع أي قوة منفردة من استخدام أسلحتها الأكثر فتكًا. ولكن مع تطور التكنولوجيا، يجب أن نسأل أنفسنا: هل يمكن أن ينطبق منطق الرّدع هذا يومًا ما على مجال جديد قد يكون كارثيًا بنفس القدر – وهو البيئة نفسها؟

لطالما كانت تقنيات مثل "برنامج الشفق النشط عالي التردّد" (HAARP) موضوعًا للتكهنات، حيث تتراوح النظريات من التحكم في الطقس وخلق موجات الجفاف إلى إثارة الزلازل. وفي حين أن المجتمع العلمي قد فند إلى حد كبير هذه الادعاءات، لعدم وجود أدلة تثبت امتلاك "HAARP" لمثل هذه القدرات، إلا أنها تجبرنا على التفكير في سؤال افتراضي حاسم: ماذا لو تمكنت دولة ما بالفعل من تطوير تكنولوجيا تسمح لها باستخدام الطقس كسلاح؟

في مثل هذا السيناريو، لن تكون الحاجة إلى امتلاك قدرة موازِنة مسألة عدوان، بل ضرورة للأمن القومي والعالمي. لا يتعلق الأمر ببدء حرب بيئية، بل بضمان عدم اندلاعها أبدًا. إن منطق الردع سيقتضي ألا تتمكن أي جهة بمفردها من احتجاز مناخ العالم كرهينة.

نشوء حتمية استراتيجية جديدة

إذا واجهنا مستقبلاً تستطيع فيه دولة ما إحداث جفاف مصطنع لشل زراعة دولة أخرى، أو إطلاق أمطار غزيرة لإحداث فيضانات مدمرة، فإن المشهد الاستراتيجي العالمي سيتغير بشكل لا رجعة فيه. ستكون مثل هذه القدرة سلاحًا ذا قوة هائلة، قادرًا على إحداث دمار واسع النطاق وزعزعة الاستقرار دون إطلاق رصاصة واحدة.

في هذا المستقبل الافتراضي، الذي لم يعد مستحيلاً بالكامل، لن يكون الموقف الدفاعي البحت كافيًا. ستكون القدرة على مواجهة مثل هذا الهجوم أمرًا بالغ الأهمية. ويمكن أن يشمل هذا "الردع البيئي" عدة مجالات رئيسية:

  • هندسة مناخية محلية: تطوير تقنيات للتخفيف من آثار الأحداث الجوية المستحثة صناعيًا أو تحييدها. قد يشمل ذلك "استمطار السحب" الموضعي لمواجهة الجفاف أو القدرة على تبديد أنظمة العواصف المصطنعة.
  • قدرات الاستجابة السريعة: القدرة على تحديد هجوم بيئي محتمل والرد عليه بسرعة. سيتطلب ذلك مراقبة متطورة للظروف الجوية والقدرة على التمييز بين الأنماط الجوية الطبيعية والتلاعب المتعمد.
  • إطار قوي للقانون الدولي والدبلوماسية: تمامًا كما لدينا معاهدات تحكم الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية، ستكون هناك حاجة إلى إجماع دولي جديد لمعالجة استخدام البيئة كسلاح. وسيشمل ذلك وضع قوانين واضحة، وآليات للتحقق، والتزامًا بالأمن الجماعي ضد أي دولة قد تنتهك مثل هذا الميثاق. توفر "اتفاقية حظر استخدام تقنيات التغيير في البيئة لأغراض عسكرية أو لأية أغراض عدائية أخرى" (ENMOD) لعام 1977 أساسًا، ولكنها ستحتاج إلى تعزيز كبير وتكييفها مع الحقائق التكنولوجية الجديدة.

التحدّي الأسمى: التّعاون العالمي

إن فكرة التلاعب بأنظمة كوكبنا المناخية، سواء لأغراض عدائية أو حتى بنوايا حميدة، تحمل في طياتها مخاطر ذات أبعاد لا يمكن تصورها. فمناخ الأرض نظام مترابط بعمق، وأي تدخل كبير في منطقة ما يمكن أن تكون له عواقب وخيمة وغير متوقعة في أماكن أخرى. إن القدرة الافتراضية على جمع "محتوى بخار بحر" وإطلاقه كمطر فوق منطقة معينة لن تشكل تحديًا للتوازنات الدفاعية فحسب، بل ستكون تهديدًا خطيرًا للنظام البيئي العالمي بأسره.

لذلك، فإن الإجراء المضاد النهائي لاستخدام البيئة كسلاح ليس تكنولوجيًا فحسب، بل هو أيضًا أخلاقي ودبلوماسي. يكمن الطريق إلى الأمام في:

  • الشفافية العلمية: يمكن للبحوث المفتوحة والتعاون الدولي في مجالات علوم الغلاف الجوي والهندسة الجيولوجية أن يساعدا في تبديد المخاوف التي لا أساس لها وبناء فهم جماعي لإمكانيات ومخاطر هذه التقنيات.
  • المعايير الأخلاقية المشتركة: يجب على المجتمع العالمي أن يجتمع لوضع خطوط حمراء أخلاقية واضحة حول التلاعب بأنظمة الأرض الطبيعية.
  • الثقة المتبادلة: الطريقة الوحيدة لمنع سباق تسلح جديد وخطير في مجال التكنولوجيا البيئية هي من خلال الحوار والتعاون والالتزام المشترك بحماية كوكبنا للأجيال القادمة.

في حين أن الادعاءات الخيالية حول التقنيات الحالية مثل "HAARP" قد لا تكون قائمة على واقع علمي، إلا أنها تمثل تجربة فكرية قيّمة. إنها تدفعنا إلى التطلع إلى المستقبل والتفكير في الآفاق الجديدة للصراع والتعاون. في القرن الحادي والعشرين، قد لا يكون الاختبار الأكبر لحكمتنا الجماعية في كيفية إدارة ترساناتنا من الأسلحة التقليدية، بل في كيفية إدارتنا للبيئة التي تدعم حياتنا جميعًا. قد يحتاج مبدأ الردع إلى التطور، ليس لكسب حرب مع الطبيعة، بل لمنع اندلاعها من الأساس.

____________

منشوراتنا - Our Publications

Islamic Finance: Institutions, Industry, Governance

(التمويل الإسلامي: المؤسّسات، الصّناعة، الحوكمة)

Hardcover | Paperback | E-book